Sunday, February 17, 2013

الاستدلال بالتمانع

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي جعلنا من العاقلين والمؤمنين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله المتطهرين وأصحابه المرضيين. أما بعد.
فالدليل لغة هو المرشد والكاشف من دَلَلْت على الشيء ودَلَلْت إليه . والمصدر دُلُوْلَة ودَلالَة , بكسر الدال وفتحها وضمها . والدال وصف للفاعل.[1] الدليل هو المرشد إلى معرفة الغائب عن الحواس وما لا يعرف بالضطرار وهو الذي ينصب من الأمارات ويورد كم الإيماء والإشارات مما يمكن التوصل به إلى معرفة ما غاب عن الضرورة والحس.[2] فالاستدلال هو طلب الدليل.[3] وعرفه الباقلاني بـ: "التقسيم المستدل وفكره في المستدل عليه وتأمُّله له".[4]
وأما الاستدلال بالتمانع أو الدليل التمانعي فهو الاستدلال على استحالة أن يكون للعالم فاعلان مستقلّان بالفعل؛ فإن استقلال كلٍّ منهما ينفي استقلال الآخر، فاستقلالهما يمنع استقلالهما.[5] وأصول هذا الاستدلال من القرآن نفسه. قال الله تعالى:                                    [6].
قد استعملوا المتكلمون هذا الاستدلال في إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى. من أكبر علماء المتكلمين الذي يستعمل هذا الاستدلال هو مؤسسهم نفسه يعني الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت. 324 هـ). وهو قال: "فإن قال قائل: لم قلتم أن صانع الأشياء واحد. قيل له لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على إحكام ولا بد أن يلحقهما العجز أو واحدا منهما لأن أحدهما إذا أراد أن يحيي إنسانا وأراد الآخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعا أو لا يتم مرادها أو يتم مراد أحدهما دون الآخر. ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيا ميتا في حال واحدة وإن لم يتم مرادهما جميعا وجب عجزهما والعاجز لا يكون إلها ولا قديما. وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما والعاجز لا يكون إلها ولا قديما".[7]
وقد تبعه ناشر مذهب المتكلمين الإمام القاضي أبو بكر الباقلاني (ت. 403 هـ): "وليس يجوز أن يكون صانع العالم اثنين ولا أكثر من ذلك والدليل على ذلك أن الاثنين يصح أن يختلفا ويوجد أحدهما ضد مراد الآخر فلو اختلفا وأراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إمامتته لوجب أن يلحقهما العجز أو واحدا منهما لأنه محال أن يتم ما يريدان جميعا لتضاد مراديهما فوجب أن لا يتما أو يتم مراد أحدهما فيلحق من لم يتم مراده العجز أو لا يتم مرادهما فيلحقهما العجز والعجز من سمات الحدث والقديم الإله لا يجوز أن يكون عاجزا".[8]
واحتج أيضا بهذا الاستدلال رئيس المتكلمين في المغرب هو أبو عمرو عثمان السلالجي (ت. 564 هـ): "لو قدرنا إليهين وقدّرنا من أحدهما إرادة حركة في محل واحد في وقت واحد، ومن الثاني إرادة تسكينه في تلك الحالة بعينها لم يخل إما أن تنفذ إرادتهما جميعا أو لا تنفذ إرادتهما أو تنفذ إرادة أحدهما دون الثاني؛ ومحال أن تنفذ إرادتهما لاستحالة اجتماع الضدين ومحال أن لا تنفذ إرادتهما لاستحالة عروِّ المحل عن الشيء ونقيضه، ومحال أن تنفذ إرادة أحدهما دون الثاني؛ إذ في ذلك تعجيز من لم تنفذ إرادته. والعجز ينافي الإلهية لأن العجز لا يكون إلا عَرَضاً، وقيام الأعراض بالقديم محال، وما أفضى إلى المحال كان محالا وكذلك القول في الاتفاق لأن اتفاقهما مشروط بجواز عدمهما وما ثبت قدمه استحال عدمه".[9]
ومن خصائض هذا الاستدلال (التمانع) كما أوضح ابن الكتاني أن الاستدلال بهذا الدليل ينبني على خمسة عشر أصلا لو أخل المستدل بأحدها ذكرا أو ضمنا لم ينتج دليله المطلوب. والأصول هي: 1 – تقرير إلهين قديمين (لأن الإله لا يكون إلا قديما ولو كان حادثا لافتقر إلى غيره)، 2- قادرين (احترازا من أن يكونا عاجزين والعاجز ليس بإله)، 3- مريدين (إذ لو لم يكن كل إله مريدا بإرادة تخصه لكان كل واحد منهما مريدا بإرادة الآخر ولم يتصور خلاف في المراد، وأيضا لو لم يكونا مريدين لكانا مكرهين والمكره ليس إلها)، 4- أن يكونا عالمين وحيين (لأنه لو لم يكن كل واحد منهما كذلك لكان ناقصا)، 5- واتحاد المحل (لأنه بذلك يتحقق التمانع)، 6- اتحاد الزمن (وبه يتحقق التمانع أيضا)، 7- انفراد كل واحد بمراده (لأنه لو كان مرادا واحدا لبطل التمانع بينهما)، 8- استحالة اجتماع الأضداد (لأنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز اجتماعهما في المحل والوقت الواحد كالحركة والسكون فلا يتحقق التمانع أيضا)، 9- استحالة خلو الجواهر عن الأعراض (لأنه لو جاز خلوها لم يصح تمانع أيضا)، 10- استحالة قديم عاجز (لأن العجز ينافي الإلهية)، 11- استحالة تناهي مقدورات القديم (لأن ما تناهت مقدوراته كان عاجزا، والعجز ليس بإله)، 12- أن الجائز كالواقع (لأنه لو لم يتصور وقوعه لانقلبت حقيقته ولصار الجائز ممتنعا، وفي ذلك قلب حقيقته وانقلاب الحقائق محال)، 13- أن يقدر لهما مرادان (لأن الإله لا بد أن يكون مريدا والإرادة لا بد لها من مراد وإلا لزم منها نفي الإلهية)، 14- أن يكون المرادان ضدين (لأنه بذلك يتحقق التمانع)، 15- أن يرجع الاختلاف إلى الصفات دون الذوات (لأن الذوات لا يقع بينها لا مناقضة ولا ممانعة).[10]
بناء على هذا، قد ظهر لنا أن الدليل التمانع هو من الدلائل العقلية أو المنطقية. وقد بني مذهب المتكلمين بجمع بين النقل والعقل. فهذا الدليل يدل على أن القرآن لا ينقض العقل والعقل لا يبطل القرآن. وهما يتداخلان.

قد تمت رسالتي في هذا الاستدلال وأسأل الله أن يقبل عملي وينفعه على الأخرين أمين يا رب العالمين. اللهم زدنا علما نافعا وارزقنا فهما صحيحا مباركا في الدنيا والآخرة. آمين.


[1] وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، الموسوعة الفقهية (الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، 2004)، ج 21، 22.
[2] أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، 1987)، 33.
[3] وزارة الأوقاف، الموسوعة الفقهية، ج 3، 278.
[4] الباقلاني، تمهيد، 34.
[5] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين (بيروت: دار الكتب العلمية، عدم السنة)، ج 3، 198.
[6] سروة الأنبياء آية: 22.
[7] أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، تحقيق: محمد أمين الضناوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 2000)، 16-17.
[8] الباقلاني، تمهيد، 45.
[9] أبو عمرو عثمان السلالجي، العقيدة البرهانية والفصول الإيمانية، تحقيق: نزار حمادي (بيروت: مؤسسة المعارف، 2008م)، 28.
[10] البختي، عثمان السلالجي، 363-364.

No comments: